تعليم البترول والمعادن- قصة نهضة سعودية ورؤية عربية رائدة

المؤلف: محمد الساعد09.08.2025
تعليم البترول والمعادن- قصة نهضة سعودية ورؤية عربية رائدة

اليوم، ونحن نشاهد جامعات وكليات المملكة العربية السعودية، مدنية وعسكرية، تحتفي بتخريج أبنائها وبناتها، نتذكر كلمة الملك فيصل -رحمه الله- في افتتاح كلية البترول والمعادن في بداية الستينيات الميلادية، والتي تحولت لاحقًا إلى جامعة مرموقة. هذه الذكرى تدعونا للتأمل في الأسباب التي دفعت السعوديين للاستثمار المبكر في التعليم، وكيف أثر هذا الاستثمار في النهضة الشاملة التي تشهدها المملكة. الملك فيصل، في خطابه التاريخي، عبّر عن حلم طالما راوده، وهو إنشاء صرح تعليمي يضاهي الأمم المتقدمة. قال: «أيها الإخوان، كان هذا المعهد حلماً من أحلامنا قبل عدة سنوات، حيث كنا ننظر إلى ما حولنا، فنجد أنفسنا صامتين مبهورين، ليس في إمكاننا أن نجاري غيرنا، أو نقارع الأمم الأخرى، في سبيل النهضة والحياة. ولكن الله سبحانه وتعالى سهّل السبيل ومهّد الصعاب التي تعترض الطريق، فوُجد هذا المعهد في فترة لا تتجاوز السنتين، وفي اعتقادي أن هذه فترة قياسية، أن ننظر إلى ما كنا عليه قبل سنتين، وما نحن عليه الآن». كانت فكرة تأسيس كلية البترول والمعادن بمثابة رؤية استثنائية وتحديًا كبيرًا، خاصة في ظل هيمنة سبع شركات أمريكية على صناعة النفط والمعرفة التقنية. ومع ذلك، تجلى الأثر العميق لهذه الرؤية بعد استيلاء السعوديين على صناعة النفط في بلادهم، حيث أداروها بكفاءة عالية، دون أي تأثير سلبي على إمدادات الطاقة. ولا تزال الكفاءات السعودية المتميزة تقود هذه الصناعة بحنكة واقتدار، وتؤثر بفاعلية في مسارها في الأسواق العالمية. كان الهدف الأساسي هو إعداد كوادر سعودية قادرة على تولي مسؤولية إنتاج البترول في مرحلة مبكرة، في وقت كانت الشركات الأجنبية تسيطر على إنتاج النفط في العالم العربي. ورغم أن معظم الدول العربية عانت من هذه الهيمنة، إلا أنها لم تتجه نحو توطين الصناعة البترولية إلا في مراحل متأخرة، واكتفت بالشعارات الرنانة حول تأميم النفط. بينما اتخذت القيادة الرشيدة في المملكة العربية السعودية قرارًا استراتيجيًا ومختلفًا، يهدف إلى بناء كوادر وطنية مؤهلة، ثم الاستحواذ الكامل على الصناعة النفطية داخل المملكة. لقد حرصت المملكة على تعليم أبنائها كل جوانب صناعة البترول، بدءًا من الإنتاج وصولًا إلى التصدير والبيع في الأسواق العالمية. ففي الوقت الذي تعمدت فيه الشركات الغربية إخفاء أسرار هذه الصناعة، بادرت المملكة بإرسال أبنائها لدراسة وفهم كل تفاصيلها، حتى وصلت ملكية الدولة السعودية في شركات النفط إلى نسبة 100٪، بفضل كوادر سعودية متعلمة ومنتشرة ومسيطرة على جميع قطاعات النفط والمعادن في المملكة. الدول التي انساقت وراء موجة التأميم الشعبوية دفعت ثمنًا باهظًا، حيث سيطرت على نفطها ولكن بدون المعرفة والكفاءات الوطنية اللازمة، مما أدى إلى تدهور قطاعها البترولي. ثم اضطرت إلى استبدال الشركات الغربية بشركات أخرى، دون وجود بنية تحتية معرفية وعلمية قوية، ولا كوادر وطنية مؤهلة. ومن الجدير بالذكر أن الدفعة الأولى من طلاب كلية البترول والثروة المعدنية السعودية، والتي ضمت 67 طالبًا، شملت أيضًا طلابًا عربًا، بمن فيهم جزائريون. يعكس هذا الموقف العروبي الأصيل الذي تبنته المملكة تجاه محيطها العربي، وخاصة الدول التي أرادت الاستفادة من التجربة السعودية. هذا الاحتضان السعودي للطلاب العرب، جاء بالرغم من الإمكانات المحدودة للمملكة في ذلك الوقت كدولة ناشئة، وبالرغم من الحملات المغرضة التي كانت ولا تزال توجه للسعوديين منذ الستينيات وحتى اليوم. الجزائريون، على سبيل المثال، الذين كانوا في المراحل الأولى من الاستقلال عن المستعمر الفرنسي، استقبلت السعودية 15 طالبًا منهم في كليتها للبترول والمعادن، ليصبحوا فيما بعد النواة الأساسية لصناعة النفط الجزائرية. بل إن سفير الجزائر في المملكة، السيد محمد يكن الغسيري، كان حاضرًا في حفل الافتتاح، إلى جانب الشيخ عيسى بن سلمان أمير دولة البحرين الشقيقة -المملكة لاحقًا-، والشيخ خليفة بن حمد أمير دولة قطر. بالرغم من الإمكانات المحدودة للمملكة في الخمسينيات والستينيات الميلادية، فقد شاركت إخوانها العرب الأحلام والطموحات والإمكانات والمعرفة وسبل العيش، وخاصة في تعلم صناعة البترول، التي تعتبر أهم صناعة في تاريخ البشرية. وهو النهج الذي تتبعه السعودية حتى اليوم، بعدما تعاظمت إمكاناتها، مع أشقائها السوريين والسودانيين والفلسطينيين وغيرهم الكثير، من خلال الدعم والمساندة ونقل الخبرات والمعرفة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة